تحريف الحقائق وتجاهل الإبادة الجماعية- قراءة في المقال الأوروبي عن السودان

المؤلف: علي الصادق11.05.2025
تحريف الحقائق وتجاهل الإبادة الجماعية- قراءة في المقال الأوروبي عن السودان

طالعت بمزيد من الاهتمام مقالًا مشتركًا صادرًا عن كل من جوزيب بوريل فونتليس، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية ونائب رئيس المفوضية الأوروبية، ويانيز لينارتستيش، المفوض الأوروبي المكلف بإدارة الأزمات، وذلك يوم الإثنين الموافق 8 أبريل/نيسان حول الأزمة المستفحلة في السودان.

أود أن أعرب عن تقديري البالغ للمسؤولين الأوروبيين الرفيعي المستوى على اهتمامهم البالغ بالشؤون الداخلية لبلادي، وقلقهم العميق إزاء الأزمة الإنسانية المتردية التي تعصف بها.

ومع ذلك، أرى أن الخطوة الأولى الحاسمة نحو المعالجة الناجعة لأي مشكلة تكمن في الفهم العميق والتوصيف الدقيق لأبعادها الحقيقية، ومن ثم السعي الجاد لإيجاد الحلول المناسبة والفعالة. وقد اتضح لي جليًا من خلال قراءة المقال أنه انطلق من فهم قاصر للأزمة الراهنة، وافتراضات تفتقر إلى الموضوعية والإنصاف. ومما لا شك فيه أن شيوع مثل هذا الفهم الخاطئ سيؤدي حتمًا إلى تعميق الأزمة وتفاقم المعاناة الإنسانية في شتى أنحاء السودان.

السرديات البديلة

من نافلة القول إن الحقيقة هي الضحية الأولى للحروب والصراعات؛ وذلك نتيجة للسرديات البديلة والمضللة للواقع التي يروج لها أولئك الذين يقفون خلف هذه الحروب. وقد وقع كاتبا المقال في هذا الشرك الخادع، سواء عن قصد أو غير قصد.

لقد أرجع الكاتبان اندلاع الحرب المأساوية قبل عام كامل إلى ما أسمياه "الانقلاب العسكري المشترك" الذي حدث في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2021. ولا شك أن هذا الزعم يبتعد كل البعد عن الحقيقة والواقع.

تجدر الإشارة إلى أن إجراءات 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 قد اتخذت في ذروة أزمة سياسية حادة عصفت بتحالف "قوى الحرية والتغيير" (قحت)، الذي كان يمثل الجانب المدني في الشراكة العسكرية المدنية التي تأسست بموجب الوثيقة الدستورية بتاريخ 17 أغسطس/آب 2019، والتي تولت تشكيل حكومتي الفترة الانتقالية في سبتمبر/أيلول 2019 وفبراير/شباط 2021.

لقد تعرضت "قحت" لسلسلة متتالية من الانشقاقات والانقسامات الداخلية، وظهرت منها ثلاث كتل متناحرة تتصارع فيما بينها، وسط اتهامات متبادلة بانتهاك صارخ للوثيقة الدستورية، والتخلي عن أهداف الثورة النبيلة، والتنصل من اتفاقية جوبا للسلام الموقعة في أكتوبر/تشرين الأول 2020. وأدت هذه الأزمة المتفاقمة إلى تعطيل عمل الحكومة الانتقالية بشكل كامل، بل وإلى تعطيل النشاط الاقتصادي الحيوي، ومعظم مظاهر الحياة الطبيعية في البلاد؛ وذلك بسبب الاعتصامات المتكررة وإغلاق الطرق العامة الحيوية، بما في ذلك الطريق البري الذي يربط السودان بمصر، والطريق المؤدي إلى ميناء بورتسودان، والميناء نفسه.

وتعد هذه الطرق والموانئ بمثابة شرايين الحياة الاقتصادية للبلاد. وبالتالي، كانت إجراءات أكتوبر/تشرين الأول 2021 محاولة جادة للخروج من تلك الأزمة المستعصية، خاصة بعد فشل ثلاث محاولات متتالية لرئيس الوزراء الانتقالي لحلها بشكل جذري. وقد حظيت هذه الإجراءات بدعم كامل من إحدى الكتلتين الرئيسيتين لقحت، ولا سيما حركات الكفاح المسلح، الأطراف الموقعة على اتفاقية جوبا.

وعلى أي حال، فقد مثّل الاتفاق الذي تم توقيعه بين المكوّن العسكري ورئيس الوزراء الانتقالي في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، نهاية فعلية لإجراءات عام 2021، حيث عاد رئيس الوزراء لمباشرة مهامه الرسمية. لكنه قدم استقالته بعد شهر واحد فقط من ذلك؛ وذلك بسبب عجزه عن توحيد رؤى الأطراف المتصارعة داخل قحت. فكيف إذن يمكن أن تُعزى حرب 15 أبريل/نيسان 2023 إلى الأحداث التي وقعت في أكتوبر/تشرين الأول 2021؟

الأسباب الحقيقية للحرب

تعود الأسباب الحقيقية لهذه الحرب الدائرة إلى إصرار أطراف خارجية وداخلية نافذة على الإبقاء على قوات الدعم السريع المتمردة والمحلولة وتعزيزها وتقويتها؛ لتكون بمثابة جيش مواز للقوات المسلحة الوطنية النظامية، وفي تحالف وثيق مع مجموعات سياسية مدنية، تسعى جاهدة للانفراد بالحكم خلال فترة انتقالية مطولة، بدعم كامل من تلك الأطراف الخارجية. ومن المؤسف أن بعثة يونيتامس قد تماهت مع هذا المخطط المشبوه.

لقد وقعت قيادة القوات المسلحة في 2 ديسمبر/كانون الأول 2022 مع الأطراف السياسية على الاتفاق الإطاري لاستعادة الحكم المدني، على أمل أن يفضي ذلك إلى إكمال دمج قوات الدعم السريع في الجيش الوطني خلال فترة زمنية معقولة؛ وذلك بهدف تحقيق احتكار الدولة للعنف المسلح، حتى تتمكن من حماية الحكم المدني الديمقراطي. غير أن المخطط المضاد كان يهدف إلى تكريس المليشيا المتمردة كقوة عسكرية غاشمة مستقلة تمامًا عن قيادة القوات المسلحة، تدعمها إمبراطورية اقتصادية هائلة وإسناد إقليمي ضخم. وعندما رفضت قيادة القوات المسلحة هذا المخطط الخبيث، شنت قيادة الدعم السريع ورعاتها الإقليميون هذه الحرب المدمرة، للاستيلاء على السلطة بالقوة الغاشمة. وحين فشلت في تحقيق ذلك، وجهت بنادقها نحو المواطنين العاديين العزل.

الرعاة الخارجيون

استعان الرعاة الإقليميون للمليشيا المتمردة بعدة آلاف من المرتزقة الأجانب والمليشيات القبلية المتطرفة، بالإضافة إلى المجرمين الخطرين الذين أطلقتهم قوات الدعم السريع من السجون. كما وفّر هؤلاء الرعاة إمدادات ضخمة ومتواصلة من الأسلحة النوعية المتطورة، والتي شملت حتى الطائرات المسيرة بدون طيار، التي استخدمت لارتكاب أسوأ الفظائع والجرائم الوحشية، بما في ذلك الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الممنهج في غرب دارفور، والعنف الجنسي واسع النطاق، والتهجير القسري لملايين السودانيين الأبرياء في العاصمة وولايات الجزيرة ودارفور والنيل الأبيض وكردفان.

نعم، لقد أشارَ المسؤولان الأوروبيان إلى دور الرعاة الخارجيين في تأجيج هذه الحرب. لكنهما قلبا الحقيقة رأسًا على عقب بشكل سافر. فالدعم السخي الذي تقدمه دولة خليجية بعينها لمليشيا الدعم السريع الإرهابية، والذي يشمل كل أنواع الأسلحة الفتاكة وجلب المرتزقة وتمويل العمليات العسكرية والإسناد السياسي والدعائي، هو العامل الجوهري والأساسي لاستمرار هذه الحرب المأساوية طوال هذه الفترة الطويلة.

ويكفي الاطلاع على التقرير الأخير الصادر عن فريق خبراء الأمم المتحدة المستقل المكلف بمراقبة تنفيذ القرار رقم 1591، في يناير/كانون الثاني الماضي، حيث يورد تفاصيل دقيقة للإمدادات العسكرية المتدفقة من تلك الدولة إلى المليشيا المتمردة عبر الحدود مع تشاد، فضلًا عن الرصد الموثق بالصور عبر الأقمار الصناعية لرحلات الشحن الجوي من مطارات تلك الدولة إلى مطاري أم جرس وأبشي التشاديين، والتي بلغت حتى يناير/كانون الثاني من هذا العام 122 رحلة جوية.

وقد تناولت الصحافة العالمية هذا الأمر مرارًا وتكرارًا، وتحدث عنه مسؤولون ومشرعون في الولايات المتحدة. بينما ظل الاتحاد الأوروبي صامتًا تمامًا، على الرغم من أن هذا الدعم هو أهم عامل منفرد لاستمرار الحرب. لقد اكتفى الكاتبان بجملة موجزة عن "نفوذ مباشر تتمتع به تلك الدولة -عدا قوات الدعم السريع- يجب أن تستخدمه لإنهاء الحرب". وهذا تبسيط مخل وغير مسؤول يرقى إلى درجة تزييف الحقيقة وتشويه الحقائق.

أما الحديث عن دور إيراني مزعوم فهو من باب ذر الرماد في العيون وتضليل الرأي العام. فليس هناك حاليًا أي تعاون عسكري بين السودان وإيران. وكل ما تم هو استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، شأن الغالبية العظمى من دول المنطقة. ومع ذلك، وبموجب جميع الشرائع والقوانين الدولية، فإنه من حق وواجب الجيش الوطني الحصول على السلاح والمعدات اللازمة التي تمكنه من الدفاع عن البلاد وشعبها ضد أي عدوان خارجي من أي مكان.

حياد تجاه الإبادة الجماعية؟!

يقول الكاتبان؛ إن الاتحاد الأوروبي يتخذ موقف الحياد من "المتحاربين". لقد ذكر خبراء الأمم المتحدة بخصوص القرار 1591 أن مليشيا الدعم السريع المتمردة والمليشيات القبلية المتحالفة معها قتلت ما بين 10 آلاف إلى 15 ألفًا من المدنيين الأبرياء في مدينة الجنينة، غرب دارفور، وحدها، منذ اندلاع الحرب وحتى نهاية العام الماضي، على أسس عرقية. وتوصّلت وزارة الخارجية الأميركية في ديسمبر/كانون الأول 2023 إلى أن المليشيا المتمردة ارتكبت جرائم ضد الإنسانية وجرائم تطهير عرقي تذكر بالإبادة الجماعية البشعة. واعتبر مشروع قرار قدمه الحزبان الرئيسان في الكونغرس الأميركي، في فبراير/شباط الماضي، أن أعمال التطهير العرقي التي ترتكبها مليشيا الدعم السريع المتمردة والمليشيات المتحالفة معها ضد المجموعات غير العربية في دارفور، ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية.

من ناحية أخرى، نبَّه 25 من مقرري وخبراء الأمم المتحدة في مجالات حقوق الإنسان وحماية المرأة والطفل في 17 أغسطس/آب 2023 إلى "الاستخدام الوحشي وواسع النطاق للاغتصاب والعنف الجنسي ضد النساء من قبل الدعم السريع، واحتجازها مئات النساء، حيث يتعرضن للاستغلال الجنسي والسخرة والاستعباد". وعضدت ذلك تقارير ميدانية لمنظمات حقوقية إقليمية ومحلية مثل: "المبادرة الإستراتيجية للنساء بالقرن الأفريقي (صيحة) والمركز الأفريقي لدراسات العدل والسلام، ومرصد مشاد لحقوق الإنسان. بينما رصد مجلس الكنائس السوداني 153 حالة اعتداء على الكنائس من مليشيا الدعم السريع المتمردة، دمرت خلالها 17 كنيسة تدميرًا كاملاً.

هذه الجرائم الشنيعة التي صمت عنها الاتحاد الأوروبي، باسم الحياد الزائف، أسوأ بكثير مما عرف عن ممارسات بوكو حرام وجيش الرب الأوغندي، وتماثل ما قامت به داعش. فهل مع هذه التنظيمات الإرهابية حياد؟ وهل يملك من يتبنى الحياد تجاه الطرف الذي يرتكب مثل هذه الجرائم أي سلطة أخلاقية لوعظ الآخرين عن القيم الإنسانية النبيلة؟

تشجيع الإرهاب والفوضى

بالمقابل، فإن القوات المسلحة السودانية، هي جيش وطني عريق، يمتد تاريخه لأكثر من مائة عام، ساهم بفاعلية في القضاء على الفاشية والنازية بمشاركته الفعالة في الحرب العالمية الثانية، وتحرير عدد من دول الجوار من براثن الفاشية، وتأسيس جيوش بعض الدول الأفريقية والعربية عقب استقلالها، فضلًا عن مشاركته المشهودة في عمليات السلام الدولية.

إنه جيش مهني ملتزم، يعرف ويطبق القانون الدولي الإنساني، وقواعد الاشتباك المتعارف عليها عالميًا. فعندما يوضع هذا الجيش الوطني، على قدم المساواة مع مليشيا من المرتزقة متعددي الجنسيات، ومع الأخذ في الاعتبار موقع السودان الجيوسياسي بالغ الأهمية، أليس ذلك تشجيعًا صريحًا للإرهاب والفوضى، وهو الأمر الذي يحذر منه المقال نفسه؟

ختامًا؛ فقد أكدت الحكومة السودانية غير مرّة التزامها التام بمخرجات منبر "جدة" باعتبارها السبيل الأمثل للتصدي للأزمة الإنسانية المتفاقمة، والتمهيد الحقيقي للسلام المستدام، مع الوفاء الكامل بالتعهدات التي قدمها المانحون في المؤتمر الدولي للمساعدات الإنسانية للسودان الذي عقد في 18 يونيو/حزيران 2023 بجنيف. كما لا بد أن يترافق ذلك مع إلزام رعاة المليشيا الإقليميين، بالتوقف الفوري عن تزويدها بأسلحة القتل والدمار التي تستخدمها ضد الشعب السوداني الأعزل.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة